كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وذهب إلى هذا قوم من أهل اللغة والحديث منهم أبو حنيفة والقاضي عبد الوهاب، والوفق من الموافقة بين الشيئين كالالتحام؛ يُقال: حلوبته وفق عياله أي لها لبن قدر كفايتهم لا فضل فيه؛ عن الجوهري.
وقال آخرون بالعكس؛ فجعلوا المسكين أحسنَ حالًا من الفقير.
واحتجو بقوله تعالى: {أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البحر} [الكهف: 79].
فأخبر أن لهم سفينة من سفن البحر.
وربما ساوت جملةً من المال.
وعَضَدوه بما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تعوّذ من الفقرِ.
وروي عنه أنه قال: «اللَّهُمَّ أحْيِنِي مسكينًا وأمتني مسكينًا» فلو كان المسكين أسوأ حالًا من الفقير لتناقض الخبران؛ إذ يستحيل أن يتعوّذ من الفقر ثم يسأل ما هو أسوأ حالًا منه، وقد استجاب الله دعاءه وقبَضَه وله مال مما أفاء الله عليه، ولكن لم يكن معه تمام الكفاية؛ ولذلك رَهَن دِرعه.
قالوا: وأما بيت الرّاعي فلا حجة فيه؛ لأنه إنما ذكر أن الفقير كانت له حَلُوبة في حال.
قالوا: والفقير معناه في كلام العرب المفقور الذي نُزعت فِقرُه من ظهره من شدّة الفقر فلا حال أشدّ من هذه.
وقد أخبر الله عنهم بقوله: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرض} [البقرة: 273].
واستشهدوا بقول الشاعر:
لما رأى لُبَدُ النُّسورِ تطايرت ** رفعَ القوادمَ كالفقير الأَعْزلِ

أي لم يطق الطيران فصار بمنزلة من انقطع صلبه ولصق بالأرض.
ذهب إلى هذا الأصمعيّ وغيره، وحكاه الطحاوِيّ عن الكوفيين.
وهو أحد قولي الشافعيّ وأكثر أصحابه.
وللشافعيّ قول آخر: أن الفقير والمسكين سواء، لا فرق بينهما في المعنى وإن افترقا في الاسم؛ وهو القول الثالث.
وإلى هذا ذهب ابن القاسم وسائر أصحاب مالك، وبه قال أبو يوسف.
قلت: ظاهر اللفظ يدل على أن المسكين غير الفقير، وأنهما صنفان، إلاَّ أن أحد الصّنفين أشدّ حاجة من الآخر؛ فمن هذا الوجه يقرب قول من جعلهما صنفًا واحدًا، والله أعلم.
ولا حجة في قول من احتج بقوله تعالى: {أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} [الكهف: 79].
لأنه يحتمل أن تكون مستأجرة لهم؛ كما يُقال: هذه دار فلان إذا كان ساكنَها وإن كانت لغيره.
وقد قال تعالى في وصف أهل النار: {وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج: 21] فأضافها إليهم.
وقال تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5].
وقال صلى الله عليه وسلم: «من باع عبدًا وله مال» وهو كثير جدًا يُضاف الشيء إليه وليس له.
ومنه قولهم: باب الدار.
وجُلّ الدابة، وسرج الفرس، وشبهه.
ويجوز أن يُسمّوا مساكين على جهة الرحمة والاستعطاف؛ كما يُقال لمن امتحن بِنكبة أو دفع إلى بلية مسكين.
وفي الحديث: «مساكين أهل النار» وقال الشاعر:
مساكين أهل الحب حتى قبورهم ** عليها تراب الذل بين المقابر

وأمّا ما تأوّلوه من قوله عليه السَّلام: «اللهم أحيِنِي مسكينًا» الحديث.
رواه أنس، فليس كذلك؛ وإنما المعنى هاهنا: التواضع لله الذي لا جبروت فيه ولا نخوة، ولا كبر ولا بطر، ولا تكبّر ولا أشر.
ولقد أحسن أبو العتاهية حيث قال:
إذا أردت شريف القوم كلّهم ** فانظر إلى ملِك في زِي مسكين

ذاك الذي عظُمت في اللَّه رغبته ** وذاك يصلح للدنيا وللدين

وليس بالسائل، لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد كره السؤال ونهى عنه، وقال في امرأة سوداء أبت أن تزول له عن الطريق: «دَعُوها فإنها جَبّارة» وأما قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرض} فلا يمتنع أن يكون لهم شيء. والله أعلم.
وما ذهب إليه أصحاب مالك والشافعيّ في أنهما سواء حسن.
ويقرب منه ما قاله مالك في كتاب ابن سُحْنون، قال: الفقير المحتاج المتعفف، والمسكين السائل؛ وروي عن ابن عباس وقاله الزُّهْرِي، واختاره ابن شعبان وهو القول الرابع.
وقول خامس قال محمد بن مسلمة: الفقير الذي له المسكن والخادم إلى من هو أسفل من ذلك.
والمسكين الذي لا مال له.
قلت: وهذا القول عكس ما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو، وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال نعم.
قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال نعم.
قال: فأنت من الأغنياء.
قال: فإن لي خادمًا قال: فأنت من الملوك.
وقول سادس روي عن ابن عباس قال: الفقراء من المهاجرين، والمساكين من الأعراب الذين لم يهاجروا؛ وقاله الضحاك.
وقول سابع وهو أن المسكين الذي يخشع ويستكنّ وإن لم يسأل.
والفقير الذي يتحمل ويقبل الشيء سرًّا ولا يخشع؛ قاله عبيد الله بن الحسن.
وقول ثامن قاله مجاهد وعِكْرمة والزُّهرِيّ المساكين الطوّافون، والفقراء فقراء المسلمين.
وقول تاسع قاله عكرمة أيضًا أن الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين فقراء أهل الكتاب، وسيأتي.
الرابعة وهي فائدة الخلاف في الفقراء والمساكين، هل هما صنف واحد أو أكثر تظهر فيمن أوصى بثلث ماله لفلان وللفقراء والمساكين؛ فمن قال هما صنف واحد قال: يكون لفلان نصف الثلث وللفقراء والمساكين نصفُ الثلث الثاني.
ومن قال هما صنفان يقسم الثلث بينهم أثلاثًا.
الخامسة وقد اختلف العلماء في حدّ الفقر الذي يجوز معه الأخذ بعد إجماع أكثر من يحفظ عنه من أهل العلم أن من له دارًا وخادمًا لا يستغني عنهما أن له أن يأخذ من الزكاة، وللمعطِي أن يعطيه.
وكان مالك يقول: إن لم يكن في ثمن الدار والخادم فضلة عما يحتاج إليه منهما جاز له الأخذ وإلا لم يجز؛ ذكره ابن المنذر.
وبقول مالك قال النَّخَعِي والثوريّ.
وقال أبو حنيفة: من معه عشرون دينارًا أو مائتا درهم فلا يأخذ من الزكاة.
فاعتبر النصاب لقوله عليه السلام: «أُمِرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردّها في فقرائكم» وهذا واضح، ورواه المغيرة عن مالك.
وقال الثوريّ وأحمد وإسحاق وغيرهم: لا يأخذ مَن له خمسون درهمًا أو قدرها من الذهب، ولا يعطَى منها أكثر من خمسين درهمًا إلا أن يكون غارمًا؛ قاله أحمد وإسحاق.
وحجة هذا القول ما رواه الدَّارَقُطْنِيّ عن عبد الله بن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحلّ الصدقة لرجل له خمسون درهمًا» في إسناده عبد الرحمن بن إسحاق ضعيف، وعنه بكر بن خنيس ضعيف أيضًا.
ورواه حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبد الله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوه، وقال: خمسون درهمًا.
وحكيم بن جبير ضعيف تركه شعبة وغيره؛ قاله الدَّارَقُطْنِيّ رحمه الله.
وقال أبو عمر: هذا الحديث يدور على حكيم بن جبير وهو متروك.
وعن عليّ وعبد الله قالا: لا تحلّ الصدقة لمن له خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب؛ ذكره الدَّارَقُطْنِي وقال الحسن البصريّ: لا يأخذ مَن له أربعون درهمًا.
ورواه الواقِديّ عن مالك.
وحجة هذا القول ما رواه الدَّارَقُطْنِيّ عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «من سأل الناس وهو غَنِيّ جاء يوم القيامة وفي وجهه كدوح وخدوش».
فقيل: يا رسول الله وما غناؤه؟ قال: «أربعون درهمًا» وفي حديث مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يَسار عن رجل من بني أسد فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من سأل منكم وله أوقِية أو عدلها فقد سأل إلحافًا والأوقية أربعون درهمًا» والمشهور عن مالك ما رواه ابن القاسم عنه أنه سئل: هل يعطَى من الزكاة مَن له أربعون درهمًا؟ قال نعم.
قال أبو عمر: يحتمل أن يكون الأوّل قوِيًّا على الاكتساب حَسن التصرف.
والثاني ضعيفًا عن الاكتساب، أو من له عيال.
والله أعلم.
وقال الشافعيّ وأبو ثَوْر.
من كان قوِيًا على الكسب والتحرّف مع قوّة البدن وحسن التصرف حتى يغنيه ذلك عن الناس فالصدقة عليه حرام.
واحتج بحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تحلّ الصدقة لغنيّ ولا لذي مِرّة سَوِيّ» رواه عبد الله بن عمر، وأخرجه أبو داود والترمذِيّ والدَّارَقُطْنِيّ.
وروى جابر قال: جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة فركبه الناس؛ فقال: «إنها لا تصلح لغنِيّ ولا لصحيح ولا لعامل» أخرجه الدّارقطنيّ.
وروى أبو داود عن عبيد الله بن عَدِيّ بن الخيار قال: أخبرني رجلان أنهما أتيا النبيّ صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يَقسم الصدقة فسألاه منها، فرفع فينا النظر وخفضه، فرآنا جَلْدَين فقال: «إن شئتما أعطيتكما ولا حظّ فيها لغنيّ ولا لقوِيّ مكتسب» ولأنه قد صار غنيًّا بكسبه كغِنى غيره بماله فصار كل واحد منهما غنيًّا عن المسألة.
وقاله ابن خُوَيْزِمَنْدَاد، وحكاه عن المذهب.
وهذا لا ينبغي أن يعوّل عليه؛ فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعطيها الفقراء ووقوفها على الزَّمِن باطل.
قال أبو عيسى الترمذِيّ في جامعه: إذا كان الرجل قويًا محتاجًا ولم يكن عنده شيء فتُصدِّق عليه أجزأ عن المتصدّق عند أهل العلم.
ووجه الحديث عند بعض أهل العلم على المسألة.
وقال الكِيَا الطبريّ: والظاهر يقتضي جواز ذلك؛ لأنه فقير مع قوّته وصحةِ بدنه.
وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.
وقال عبيد الله بن الحسن: من لا يكون له ما يكفيه ويقيمه سَنةً فإنه يعطي الزكاة.
وحجته ما رواه ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحَدَثان عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدّخر مما أفاء الله عليه قوت سنة، ثم يجعل ما سوى ذلك في الكُراع والسلاح مع قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فأغنى} [الضحى: 8].
وقال بعض أهل العلم: لكل واحد أن يأخذ من الصدقة فيما لابد له منه.
وقال قوم: من عنده عشاء ليلة فهو غنِى؛ وروي عن عليّ.
واحتجوا بحديث عليّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من سأل مسألة عن ظَهر غِنىً استكثر بها من رَضْف جهنم» قالوا: يا رسول الله، وما ظهر الغني؟ قال: «عشاء ليلة» أخرجه الدَّارَقُطْنِي وقال: في إسناده عمرو بن خالد وهو متروك.
وأخرجه أبو داود عن سهل بن الحَنْظَلية عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفيه: «من سأل وعنده ما يُغنيه فإنما يستكثر من النار» وقال النُّفَيْلي في موضع آخر «من جمر جهنم» فقالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ وقال النُّفَيْلي في موضع آخر؛ وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة؟ قال: «قدر ما يغدّيه ويعشّيه» وقال النّفيلي في موضع آخر: «أن يكون له شبع يوم وليلة أو ليلة ويوم».
قلت: فهذا ما جاء في بيان الفقر الذي يجوز معه الأخذ.
ومطلق لفظ الفقراء لا يقتضي الإختصاص بالمسلمين دون أهل الذمة، ولكن تظاهرت الأخبار في أن الصدقات تؤخذ من أغنياء المسلمين فتُرد في فقرائهم.
وقال عكرمة: الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين فقراء أهل الكتاب.
وقال أبو بكر العبسي: رأى عمر بن الخطاب ذِمّيًّا مكفوفًا مطروحًا على باب المدينة فقال له عمر: مالَك؟ قال: استكروني في هذه الجزية، حتى إذا كُفّ بصري تركوني وليس لي أحد يعود عليّ بشيء.